سبحان من سلكه ينابيع في القلوب ، وصرفه بأبدع معنى وأغرب أسلوب ، لا يستقصي معانيه فهم الخلق ، ولا يحيط بوصفه على الإطلاق ذو اللسان الطلق ، فالسعيد من صرف همته إليه ، ووقف فكره وعزمه عليه ، والموفق من وفقه الله لتدبره ، واصطفاه للتذكير به وتذكره ، فهو يرتع منه في رياض ، ويكرع منه في حياض . أندى على الأكباد من قطر الندى وألذ في الأجفان من سنة الكرى : علوم القرآن مَّا حَوَاهُ الْقُرْآنُ الشَّرِيفُ مِنْ أَنْوَاعِ عِلْمِهِ الْمَنِيفِ وَيَنْحَصِرُ فِي أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: مَوَاطِنُ النُّزُولِ وَأَوْقَاتُهُ وَوَقَائِعُهُ وَفِي ذلك اثنا عشر نوعا: الْمَكِّيُّ الْمَدَنِيُّ السَّفَرِيُّ الْحَضَرِيُّ اللَّيْلِيُّ النَّهَارِيُّ الصَّيْفِيُّ الشتائي الفراشي النومي أَسْبَابُ النُّزُولِ أَوَّلُ مَا نَزَلَ آخِرُ مَا نَزَلَ. الْأَمْرُ الثَّانِي: السَّنَدُ وَهُوَ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ الْمُتَوَاتِرُ الْآحَادُ الشَّاذُّ قِرَاءَاتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّوَاةُ الْحُفَّاظُ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: الْأَدَاءُ وَهُوَ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ الْوَقْفُ الِابْتِدَاءُ الْإِمَالَةُ الْمَدُّ تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ الْإِدْغَامُ. الْأَمْرُ الرَّابِعُ: الْأَلْفَاظُ وَهُوَ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ الْغَرِيبُ الْمُعَرَّبُ الْمَجَازُ الْمُشْتَرَكُ الْمُتَرَادِفُ الِاسْتِعَارَةُ التَّشْبِيهُ. الْأَمْرُ الْخَامِسُ: الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَحْكَامِ وَهُوَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ نَوْعًا الْعَامُّ الْبَاقِي عَلَى عُمُومِهِ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ الْعَامُّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ مَا خَصَّ فِيهِ الْكِتَابُ السنة ما خصصت فِيهِ السُّنَّةُ الْكِتَابَ الْمُجْمَلُ الْمُبَيِّنُ المؤول الْمَفْهُومُ الْمُطْلَقُ الْمُقَيَّدُ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ نَوْعٌ مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَهُوَ مَا عُمِلَ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً وَالْعَامِلُ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ. الْأَمْرُ السَّادِسُ: الْمَعَانِي المتعلقة بالألفاظ وَهُوَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ الْفَصْلُ الْوَصْلُ الإيجاز الْإِطْنَابُ الْقَصْرُ. وَبِذَلِكَ تَكَمَّلَتِ الْأَنْوَاعُ خَمْسِينَ وَمِنَ الْأَنْوَاعِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ الْأَسْمَاءُ الْكُنَى الْأَلْقَابُ الْمُبْهَمَاتُ فَهَذَا نِهَايَةُ مَا حُصِرَ مِنَ الْأَنْوَاعِ يملأ القلوب بشرا ، ويبعث القرائح عبيرا ونشرا ، يحيي القلوب بأوراده ، ولهذا سماه الله روحا ; فقال : ( يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ) ( غافر : 15 ) ; فسماه روحا لأنه يؤدي إلى حياة الأبد ، ولولا الروح لمات الجسد ، فجعل هذا الروح سببا للاقتدار ، وعلما على الاعتبار . يزيد على طول التأمل بهجة كأن العيون الناظرات صياقل وإنما يفهم بعض معانيه ، ويطلع على أسراره ومبانيه ; من قوي نظره ، واتسع مجاله في الفكر وتدبره ; وامتد باعه ; ورقت طباعه ، وامتد في فنون الأدب ، وأحاط بلغة العرب . لله تعالى مواهب ، جعلها أصولا للمكاسب ، فمن وهبه عقلا يسر عليه السبيل ، ومن ركب فيه خرقا نقص ضبطه من التحصيل ، ومن أيده بتقوى الاستناد إليه في جميع أموره علمه وفهمه " . قال : " وأكمل العلماء من وهبه الله تعالى فهما في كلامه ، ووعيا عن كتابه ، وتبصرة في الفرقان ، وإحاطة بما شاء من علوم القرآن ، ففيه تمام شهود ما كتب الله لمخلوقاته من ذكره الحكيم ; بما يزيل بكريم عنايته من خطأ اللاعبين ; إذ فيه كل العلوم . وقال الشافعي - رضي الله عنه - : " جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة ، وجميع السنة شرح للقرآن ، وجميع القرآن شرح أسماء الله الحسنى ، وصفاته العليا - زاد غيره : وجميع الأسماء الحسنى شرح لاسمه الأعظم - وكما أنه أفضل من كل كلام سواه ، فعلومه أفضل من كل علم عداه ; قال تعالى : ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ) ( الرعد : 19 ) ، وقال تعالى : ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) ( البقرة : 269 ) ، وقال مجاهد : الفهم والإصابة في القرآن . وقال مقاتل : يعني علم القرآن . قوله تعالى : ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ) ( الأعراف : 146 ) ، قال : أحرمهم فهم القرآن . وقال سفيان الثوري : لا يجتمع فهم القرآن والاشتغال بالحطام في قلب مؤمن أبدا . وقال - عز وجل - : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ( الأنعام : 38 ) . وقال : ( أفلا يتدبرون القرآن ) ، ( النساء : 82 ) . وقال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ( الفاتحة : 6 ) قال : " القرآن " يقول : أرشدنا إلى علمه . وقال الحسن البصري : علم القرآن ذكر لا يعلمه إلا الذكور من الرجال " . وقال الله - جل ذكره - : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) . ( النساء : 59 ) ، وقال تعالى : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ( الشورى : 10 ) ; يقول : إلى كتاب الله " . وكل علم من العلوم منتزع من القرآن ، وإلا فليس له برهان . قال ابن مسعود : " من أراد العلم فليثور القرآن ، فإن فيه علم الأولين والآخرين " رواه البيهقي في " المدخل " وقال : " أراد به أصول العلم " . وقد كانت الصحابة - رضي الله عنهم - علماء ; كل منهم مخصوص بنوع من العلم كعلي - رضي الله تعالى عنه - بالقضاء ، وزيد بالفرائض ، ومعاذ بالحلال والحرام ، وأبي بالقراءة فلم يسم أحد منهم بحرا إلا عبد الله بن عباس لاختصاصه دونهم بالتفسير وعلم التأويل ; وقال فيه علي بن أبي طالب : " كأنما ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق " . وقال فيه عبد الله بن مسعود : " نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس " ; وقد مات ابن مسعود في سنة ثنتين وثلاثين ; وعمر بعده ابن عباس ستا وثلاثين سنة ; فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود ! نعم ; كان لعلي فيه اليد السابقة قبل ابن عباس ; وهو القائل : " لو أردت أن أملي وقر بعير على الفاتحة لفعلت " . وقال ابن عطية : " فأما صدر المفسرين والمؤيد فيهم فعلي بن أبي طالب ، ويتلوه ابن عباس - رضي الله عنهما - ; وهو تجرد للأمر وكمله ، وتتبعه العلماء عليه ; كمجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما . وكان جلة من السلف كسعيد بن المسيب والشعبي وغيرهما ، يعظمون تفسير القرآن ، ويتوقفون عنه تورعا واحتياطا لأنفسهم ، مع إدراكهم وتقدمهم " ، ثم جاء بعدهم طبقة فطبقة ، فجدوا واجتهدوا ، وكل ينفق مما رزقه الله ; ولهذا كان سهل بن عبد الله - رضي الله عنه - يقول : " لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه ; لأنه كلام الله ، وكلامه صفته . وكما أنه ليس لله نهاية ، فكذلك لا نهاية لفهم كلامه ; وإنما يفهم كل مقدار ما يفتح الله عليه . وكلام الله غير مخلوق ، ولا تبلغ إلى نهاية فهمه فهوم محدثة مخلوقة
قوله تعالى: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها} (البقرة:189) فهذه الآية لا يستقيم فهمها فهماً صحيحاً إلا في ضوء معرفة سبب نزولها، وقد جاء في سبب نزولها، ما رواه البخاري في "صحيحه" من حديث البراء رضي الله عنه أنه قال: (كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها} فالمراد من الآية على ضوء سبب نزولها ليس مجرد الأمر بالدخول من الأبواب على حقيقته، بل المراد منها الأمر بالتزام أوامر الله ونواهيه، وطاعته على وفق ما أمر وشرع. وأمثلة هذا كثير في القرآن. : أن اكتشاف القرآن يحصل بمعرفة القرآن ثم اتباع منهج التدبر والتفكر في آياته ومعانيه لكشف أسراره ومقاصده وأن القرآن روح، ومن أهم خصائص الروح أنه سبب الحياة وباعثها في سائر الأحياء فالحياة توجد بوجوده وتنعدم بانعدامه فالقرآن روح؛ لأنه سبب حياة هذه الأمة وسبب حياة القلوب {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} (الشورى:52-53) وأما التدبر في القرآن الذي هو منهج اكتشاف القرآن فهو: النظر في مآلات الآيات القرآنية وعواقبها ومواقعها من النفسوآثارها على القلب والعمل ومدى تطبيقها ومخالفتها وإذا كانت تتعلق بالمجتمع ننظر في سنن الله فيه كيف وقعت؟ وكيف تقع اليوم _ وعلاقة ذلك كله بالكون والحياة والمصير وأما التفكر كما ورد في سياقات قرآنية هو التأمل في بديع صنع الله يحصل به في القلوب الخاشعة إحساس بالحياة وشعور بعظمة الله الواحد القهار والرهبة من جلال ملكه وعظمة سلطانه وإيمان متين وتسليم تام لقدرة الله وكما ذكرنا بداية، فإن أسباب النزول قد أفرد لها أهل العلم مؤلفات خاصة، لعل من أهمها كتاب "أسباب النزول" للواحدي ، وكتاب "أسباب النزول" للسيوطي، وللحافظ ابن حجر تأليف فيها أيضاً، إضافة إلى أن كل من كتب في علوم القرآن أفرد بحثاً خاصاً بأسباب النزول. ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن العلماء قرروا قاعدة متعلقة بأسباب النزول، مفادها أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وتعني هذه القاعدة باختصار، أن النص الشرعي إذا ورد بسبب واقعة معينة حصلت في عصر التنزيل، فإن الحكم لا يكون مقتصراً على تلك الواقعة فحسب، وإنما يكون حكماً عاماً في كل ما شابهها من وقائع ونوازل، وذلك أن أحكام القرآن -من حيث الأصل- هي أحكام عامة لكل زمان ومكان، وليست أحكاماً خاصة بأفراد معينين. ولتوضيح هذه المسألة نذكر مثالاً يكشف المقصود منها. فقد أخرج البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنه، أن هلال بن أمية قذف امرأته بـ شريك بن سحماء ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حدٌّ في ظهرك) فقال: يا رسول الله! إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلاً، ينطلق يلتمس البينة، فأنزل الله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين} (النور:6) فهذه الآية سبب نزولها خاص، وهو هذه الحادثة، إلا أن حكم اللعان الذي جاءت به حكم عام، خُوطب به جميع المسلمين، ومن هنا قال أهل العلم: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. أن اكتشاف القرآن يحصل بمعرفة القرآن ثم اتباع منهج التدبر والتفكر في آياته ومعانيه لكشف أسراره ومقاصده وأن القرآن روح، ومن أهم خصائص الروح أنه سبب الحياة وباعثها في سائر الأحياء فالحياة توجد بوجوده وتنعدم بانعدامه فالقرآن روح؛ لأنه سبب حياة هذه الأمة وسبب حياة القلوب {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} (الشورى:52-53) وأما التدبر في القرآن الذي هو منهج اكتشاف القرآن فهو: النظر في مآلات الآيات القرآنية وعواقبها ومواقعها من النفسوآثارها على القلب والعمل ومدى تطبيقها ومخالفتها وإذا كانت تتعلق بالمجتمع ننظر في سنن الله فيه كيف وقعت؟ وكيف تقع اليوم _ وعلاقة ذلك كله بالكون والحياة والمصير وأما التفكر كما ورد في سياقات قرآنية هو التأمل في بديع صنع الله يحصل به في القلوب الخاشعة إحساس بالحياة وشعور بعظمة الله الواحد القهار والرهبة من جلال ملكه وعظمة سلطانه وإيمان متين وتسليم تام لقدرة الله : القرآن الكريم كتاب الإنسانية الخالد اختاره سبحانه ليكون آخر الكتب السماوية والمهيمن عليها فيه هدى للناس تكفل سبحانه بحفظه من التبديل والتغيير. وهيأ له من العلماء العاملين والمخلصين الذين يبينون حقيقته ويدفعون الشبه عنه ويكرسون حياتهم خدمة لهذا الكتاب والتعرف على الله والتعريف به إنما يحصل من خلال القرآن عبر قراءة الرسالة الربانية إلى عباده فأول مقصد القرآن هو تعريف الناس بالله المتكلم بالقرآن ؛ فمعرفة الله لا تكون إلا عبر رسالته المتضمنة لكلامه في التعريف بنفسه ومدخل آخر لمعرفة الله هو أداء المؤمن حق الخالقية لربه الذي خلقه وأحسن خلقه فيستفيد من تأدية هذا الحق معنى عظيماً لوجوده ؛ فينطلق المسلم في توحيد الربوبية الذي ينفتح بابه على العباد من الشعور بحق الخالقية فكان أول وصف لذاته تعالى في بدء تعريفه بالله رباً {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (العلق:1) وينبعث من معرفة الله بما عرّف به نفسه تعرُّفُ الإنسان على ذاته والكون الذي يعيش فيه فالبحث عن الذات فطرة في الإنسان ولن تُعرف الذاتُ إلا إذا عُرف سببُ وجودها وموجدها ومصيرها ؛ وذلك متوقف على معرفة الله الواحد أولاً مفهوم الحياة التي وصفها الله تعالى بصفتين متقابلتين : الأولى هي : (الدنيا) والثانية هي : (الآخرة) فالحياة إذن طبقتان: الأولى تنتمي إلى عالم الشهادة وهي حياتنا هذه التي نحياها والثانية تنتمي إلى عالم الغيب وهي الحياة الآخرة التي تعتبر من أهم أركان الإيمان ؛ فالإيمان بالحياة الأخروية قرين الإيمان بالله تعالى كما ورد في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. فكل أعمال المسلم راجعة إلى مدى سلامة هذا الأصل قصداً ووقتاً وأداء فالقرآن الكريم يضفي على الصلاة مذاقاً إيمانيًّا مستمداً من اكتشاف أسرار الصلاة يدفع التالي للقرآن حق تلاوته إلى تذوق حلاوة الصلاة والإحساس بأثرها في النفس وفي هذا السياق العام ورد الأمر بالصلاة مباشرة بعد تلاوة القرآن {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة} (العنكبوت:45).{وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون} (العنكبوت:45) لذلك أفردها الله بالذكر عقب ذكر التمسك بالكتاب
قوله تعالى : هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب . [ ص: 267 ] قوله تعالى : هو الذي يريكم آياته أي دلائل توحيده وقدرته وينزل لكم من السماء رزقا جمع بين إظهار الآيات وإنزال الرزق ; لأن بالآيات قوام الأديان ، وبالرزق قوام الأبدان . وهذه الآيات هي السماوات والأرضون وما فيهما وما بينهما من الشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والبحار والأنهار والعيون والجبال والأشجار وآثار قوم هلكوا . وما يتذكر أي ما يتعظ بهذه الآيات فيوحد الله إلا من ينيب أي يرجع إلى طاعة الله . فادعوا الله أي اعبدوه مخلصين له الدين أي العبادة . وقيل : الطاعة . ولو كره الكافرون عبادة الله فلا تعبدوا أنتم غيره . قوله تعالى : رفيع الدرجات ذو العرش ذو العرش على إضمار مبتدأ . قال الأخفش : ويجوز نصبه على المدح . ومعنى رفيع الدرجات أي : رفيع الصفات . وقال ابن عباس والكلبي وسعيد بن جبير : رفيع السماوات السبع . وقال يحيى بن سلام : هو رفعة درجة أوليائه في الجنة ف " رفيع " على هذا بمعنى رافع فعيل بمعنى فاعل . وهو على القول الأول من صفات الذات ، ومعناه الذي لا أرفع قدرا منه ، وهو المستحق لدرجات المدح والثناء ، وهي أصنافها وأبوابها لا مستحق لها غيره . قاله الحليمي . وقد ذكرناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى والحمد لله . ذو العرش أي : خالقه ومالكه لا أنه محتاج إليه . وقيل : هو من قولهم : ثل عرش فلان أي : زال ملكه وعزه ، فهو سبحانه ذو العرش بمعنى ثبوت ملكه وسلطانه ، وقد بيناه في الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى . يلقي الروح أي الوحي والنبوة على من يشاء من عباده ، وسمي ذلك روحا لأن الناس يحيون به ، أي : يحيون من موت الكفر كما تحيا الأبدان بالأرواح . وقال ابن زيد : الروح القرآن ، قال الله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا . وقيل : الروح جبريل ، قال الله تعالى : نزل به الروح الأمين على قلبك وقال : قل نزله روح القدس من ربك بالحق . من أمره أي من قوله . وقيل : من قضائه . وقيل : من بمعنى الباء أي : بأمره . على من يشاء من عباده وهم الأنبياء ، يشاء هو أن يكونوا أنبياء وليس لأحد فيهم مشيئة . لينذر يوم التلاق أي إنما يبعث الرسول لإنذار يوم البعث . فقوله : لينذر يرجع إلى الرسول . وقيل : أي : لينذر الله ببعثه الرسل إلى الخلائق يوم التلاق . وقرأ ابن عباس والحسن وابن السميقع " لتنذر " بالتاء خطابا للنبي عليه السلام . يوم التلاق قال ابن عباس وقتادة : يوم تلتقي أهل السماء وأهل الأرض . وقال قتادة أيضا وأبو العالية ومقاتل : يلتقي فيه الخلق والخالق . وقيل : العابدون والمعبودون . وقيل : الظالم والمظلوم . وقيل : يلقى كل إنسان جزاء عمله . وقيل : يلتقي الأولون والآخرون على صعيد واحد ، روي معناه عن ابن عباس . وكله صحيح المعنى . يوم هم بارزون يكون بدلا من " يوم " الأول . وقيل : هم في موضع رفع بالابتداء و " بارزون " خبره ، والجملة في موضع خفض بالإضافة ، فلذلك حذف التنوين من " يوم " وإنما يكون هذا عند سيبويه إذا كان الظرف بمعنى إذ ، تقول لقيتك يوم زيد أمير . فإن كان بمعنى إذا لم يجز نحو أنا ألقاك يوم زيد أمير . ومعنى : بارزون خارجون من قبورهم لا يسترهم شيء ; لأن الأرض يومئذ قاع صفصف لا عوج فيها ولا أمتا على ما تقدم في [ طه ] بيانه . لا يخفى على الله منهم شيء قيل : إن هذا هو العامل في " يوم هم بارزون " أي : لا يخفى عليه شيء منهم ومن أعمالهم يوم هم بارزون . لمن الملك اليوم وذلك عند فناء الخلق . وقال الحسن : هو السائل تعالى وهو المجيب ; لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه فيجيب نفسه سبحانه فيقول : لله الواحد القهار . النحاس : وأصح ما قيل فيه ما رواه أبو وائل عن ابن مسعود قال : ( يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله - جل وعز - عليها ، فيؤمر مناد ينادي : لمن الملك اليوم ؟ فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم : لله الواحد القهار ، فيقول المؤمنون هذا الجواب سرورا وتلذذا ، ويقوله الكافرون غما وانقيادا وخضوعا . فأما أن يكون هذا والخلق غير موجودين فبعيد ; لأنه لا فائدة فيه ، والقول صحيح عن ابن مسعود وليس هو مما يؤخذ بالقياس ولا بالتأويل . قلت : والقول الأول ظاهر جدا ; لأن المقصود إظهار انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعاوى المدعين وانتساب المنتسبين إذ قد ذهب كل ملك وملكه ومتكبر وملكه ، وانقطعت نسبهم ودعاويهم ، ودل على هذا قوله الحق عند قبض الأرض والأرواح وطي السماء : أنا الملك أين ملوك الأرض كما تقدم في حديث أبي هريرة وفي حديث ابن عمر ، ثم يطوي الأرض بشماله والسموات بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ، أين المتكبرون . وعنه قوله سبحانه : لمن الملك اليوم هو انقطاع زمن الدنيا وبعده يكون البعث والنشر . قال محمد بن كعب قوله سبحانه : لمن الملك اليوم يكون بين النفختين حين فني الخلائق وبقي الخالق فلا يرى غير نفسه مالكا ولا مملوكا فيقول : لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد ; لأن الخلق أموات ، فيجيب نفسه فيقول : لله الواحد القهار لأنه بقي وحده وقهر خلقه . وقيل : إنه ينادي مناد فيقول : لمن الملك اليوم فيجيبه أهل الجنة : لله الواحد القهار فالله أعلم . ذكره الزمخشري . قوله تعالى : اليوم تجزى كل نفس بما كسبت أي يقال لهم إذا أقروا بالملك يومئذ لله وحده اليوم تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر . لا ظلم اليوم أي لا ينقص أحد شيئا مما عمله . إن الله سريع الحساب أي لا يحتاج إلى تفكر وعقد يد كما يفعله الحساب ; لأنه العالم الذي لا يعزب عن علمه شيء فلا يؤخر جزاء أحد للاشتغال بغيره ، وكما يرزقهم في ساعة واحدة يحاسبهم كذلك في ساعة واحدة . وقد مضى هذا المعنى في [ البقرة ] . وفي الخبر : ولا ينتصف النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار .
خدمة توفر تفسير شامل للقران الكريم مع شروح تفصيلية لكل آية وأسباب نزولها بالإضافة إلى توضيح الأحكام والمقاصد الشرعية المتعلقة بها.
تسليط الضوء على الاكتشافات العلمية والمعجزات العلمية الموجودة في القران الكريم ومدى تطابقها مع العلوم الحديثة.